الهجرة الأولى إلى الحبشة :
كانت بداية الاعتداءات في أواسط أو أواخر السنة الرابعة من النبوة، بدأت
ضعيفة، ثم لم تزل تشتد يومًا فيومًا وشهرًا فشهرا، حتى تفاقمت في أواسط
السنة الخامسة، ونبا بهم المقام في مكة، وأخذوا يفكرون في حيلة تنجيهم من
هذا العذاب الأليم، وفي هذه الظروف نزلت سورة الزمر تشير إلى اتخاذ سبيل
الهجرة، وتعلن بأن أرض الله ليست بضيقة {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي
هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى
الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر:10].
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد علم أن أصْحَمَة النجاشى ملك الحبشة
ملك عادل، لا يظلم عنده أحد، فأمر المسلمين أن يهاجروا إلى الحبشة فرارًا
بدينهم من الفتن.
وفي رجب سنة خمس من النبوة هاجر أول فوج من الصحابة إلى الحبشة. كان
مكونًا من اثنى عشر رجلًا وأربع نسوة، رئيسهم عثمان بن عفان، ومعه زوجته
رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم
فيهما: (إنهما أول بيت هاجر في سبيل الله بعد إبراهيم ولوط عليهما
السلام)
كان رحيل هؤلاء تسللًا في ظلمة الليل ـ حتى لا تفطن لهم قريش ـ خرجوا إلى
البحر ويمموا ميناء شعيبة، وقيضت لهم الأقدار سفينتين تجاريتين أبحرتا بهم
إلى الحبشة، وفطنت لهم قريش، فخرجت في آثارهم، لكن لما بلغت إلى الشاطئ
كانوا قد انطلقوا آمنين، وأقام المسلمون في الحبشة في أحسن جوار.
*سجود المشركين مع المسلمين وعودة المهاجرين :
وفي رمضان من نفس السنة خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى الحرم، وفيه جمع
كبير من قريش، فيهم ساداتهم وكبراؤهم، فقام فيهم، وفاجأهم بتلاوة سورة
النجم، ولم يكن أولئك الكفار سمعوا كلام الله من قبل؛ لأنهم كانوا مستمرين
على ما تواصى به بعضهم بعضًا،من قولهم: {لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا
الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} [فصلت:26]
فلما باغتهم بتلاوة هذه السورة، وقرع آذانهم كلام إلهي خلاب، وكان أروع
كلام سمعوه قط، أخذ مشاعرهم، ونسوا ما كانوا فيه فما من أحد إلا وهو مصغ
إليه، لا يخطر بباله شىء سواه، حتى إذا تلا في خواتيم هذه السورة قوارع
تطير لها القلوب، ثم قرأ: {فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا}
[النجم:62] ثم سجد، لم يتمالك أحد نفسه حتى خر ساجدًا. وفي
الحقيقة كانت روعة الحق قد صدعت العناد في نفوس المستكبرين والمستهزئين،
فما تمالكوا أن يخروا لله ساجدين.
وسَقَطَ في أيديهم لما أحسوا أن جلال كلام الله لَوَّى زمامهم، فارتكبوا
عين ما كانوا يبذلون قصارى جهدهم في محوه وإفنائه، وقد توالى عليهم اللوم
والعتاب من كل جانب، ممن لم يحضر هذا المشهد من المشركين، وعند ذلك كذبوا
على رسول الله صلى الله عليه وسلم وافتروا عليه أنه عطف على أصنامهم بكلمة
تقدير، وأنه قال عنها ما كانوا يرددونه هم دائما من قولهم: (تلك
الغرانيـق العلى، وإن شفاعتهم لترتجى)، جاءوا بهذا الإفك المبـين
ليعـتذروا عـن سجودهم مع النبي صلى الله عليه وسلم، وليس يستغـــرب هـذا
مـن قـوم كانوا يألفون الكذب، ويطيلون الدس والافتراء.
وبلغ هذا الخبر إلى مهاجري الحبشة، ولكن في صورة تختلف تمامًا عن صورته
الحقيقية، بلغهم أن قريشًا أسلمت، فرجعوا إلى مكة في شوال من نفس السنة،
فلما كانوا دون مكة ساعة من نهار وعرفوا جلية الأمر رجع منهم من رجع إلى
الحبشة، ولم يدخل في مكة من سائرهم أحد إلا مستخفيًا، أو في جوار رجل من
قريش.
ثم اشتد عليهم وعلى المسلمين البلاء والعذاب من قريش، وسطت بهم عشائرهم،
فقد كان صعب على قريش ما بلغها عن النجاشي من حسن الجوار، ولم ير رسول
الله صلى الله عليه وسلم بدا من أن يشير على أصحابه بالهجرة إلى الحبشة
مرة أخرى.
*الهجرة الثانية إلى الحبشة :
واستعد المسلمون للهجرة مرة أخرى، وعلى نطاق أوسع، ولكن كانت هذه الهجرة
الثانية أشق من سابقتها، فقد تيقظت لها قريش وقررت إحباطها، بيد أن
المسلمين كانوا أسرع، ويسر الله لهم السفر، فانحازوا إلى نجاشي الحبشة قبل
أن يدركوا.
وفي هذه المرة هاجر من الرجال ثلاثة وثمانون رجلًا إن كان فيهم عمار، فإنه يشك فيه، وثماني عشرة أوتسع عشرة امرأة.
*مكيدة قريش بمهاجري الحبشة :
عز على المشركين أن يجد المهاجرون مأمنا لأنفسهم ودينهم، فاختاروا رجلين
جلدين لبيبين، وهما: عمرو بن العاص، وعبد الله بن أبي ربيعة ـ قبل أن
يسلما ـ وأرسلوا معهما الهدايا المستطرفة للنجاشي ولبطارقته، وبعد أن ساق
الرجلان تلك الهدايا إلى البطارقة، وزوداهم بالحجج التي يطرد بها أولئك
المسلمون، وبعد أن اتفقت البطارقة أن يشيروا على النجاشي بإقصائهم، حضرا
إلى النجاشي، وقدما له الهديا ثم كلماه فقالا له:
أيها الملك، إنه قد ضَوَى إلى بلدك غلمان سفهاء، فارقوا دين قومهم، ولم
يدخلوا في دينك، وجاءوا بدين ابتدعوه، لا نعرفه نحن ولا أنت، وقد بعثنا
إليك فيهم أشراف قومهم من آبائهم وأعمامهم وعشائرهم؛ لتردهم إليهم، فهم
أعلى بهم عينًا، وأعلم بما عابوا عليهم، وعاتبوهم فيه.
وقالت البطارقة: صدقا أيها الملك، فأسلمهم إليهما، فليرداهم إلى قومهم وبلادهم.
ولكن رأي النجاشي أنه لا بد من تمحيص القضية، وسماع أطرافها جميعًا.
فأرسل إلى المسلمين، ودعاهم، فحضروا، وكانوا قد أجمعوا على الصدق كائنًا
ما كان. فقال لهم النجاشي: ما هذا الدين الذي فارقتم فيه قومكم، ولم
تدخلوا به في دينى ولا دين أحد من هذه الملل ؟
قال جعفر بن أبي طالب ـ وكان هو المتكلم عن المسلمين: أيها الملك كنا
قومًا أهل جاهلية؛ نعبد الأصنام ونأكل الميتة، ونأتى الفواحش، ونقطع
الأرحام، ونسىء الجوار، ويأكل منا القوى الضعيف، فكنا على ذلك حتى بعث
الله إلينا رسولًا منا، نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه، فدعانا إلى الله
لنوحده ونعبده، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة
والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار،
والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش، وقول الزور، وأكل مال
اليتيم،وقذف المحصنات،وأمرنا أن نعبد الله وحده،لا نشرك به شيئًا،وأمرنا
بالصلاة والزكاة والصيام ـ فعدد عليه أمور الإسلام ـ فصدقناه، وآمنا به،
واتبعناه على ما جاءنا به من دين الله، فعبدنا الله وحده، فلم نشرك به
شيئًا، وحرمنا ما حرم علينا، وأحللنا ما أحل لنا، فعدا علينا قومنا،
فعذبونا وفتنونا عن ديننا؛ ليردونا إلى عبادة الأوثان من عبادة الله
تعالى، وأن نستحل ما كنا نستحل من الخبائث، فلما قهرونا وظلمونا وضيقوا
علينا، وحالوا بيننا وبين ديننا خرجنا إلى بلادك، واخترناك على من سواك،
ورغبنا في جوارك، ورجونا ألا نظلم عندك أيها الملك.
فقال له النجاشي: هل معك مما جاء به عن الله من شيء؟ فقال له جعفر:
نعم. فقال له النجاشي: فاقرأه على، فقرأ عليه صدرًا من: {كهيعص}
فبكى والله النجاشي حتى اخضلت لحيته، وبكت أساقفته حتى أخْضَلُوا مصاحفهم
حين سمعوا ما تلا عليهم، ثم قال لهم النجاشي: إن هذا والذي جاء به عيسى
ليخرج من مشكاة واحدة، انطلقا، فلا والله لا أسلمهم إليكما، ولا يكادون ـ
يخاطب عمرو بن العاص وصاحبه ـ فخرجا، فلما خرجا قال عمرو بن العاص لعبد
الله بن أبي ربيعة: والله لآتينه غدًا عنهم بما أستأصل به خضراءهم.
فقال له عبد الله بن أبي ربيعة: لا تفعل، فإن لهم أرحامًا وإن كانوا قد
خالفونا، ولكن أصر عمرو على رأيه.
فلما كان الغد قال للنجاشي: أيها الملك، إنهم يقولون في عيسى ابن مريم
قولًا عظيمًا، فأرسل إليهم النجاشي يسألهم عن قولهم في المسيح ففزعوا،
ولكن أجمعوا على الصدق، كائنًا ما كان، فلما دخلوا عليه وسألهم، قال له
جعفر: نقول فيه الذي جاءنا به نبينا صلى الله عليه وسلم: هو عبد الله
ورسوله وروحه وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البَتُول.
فأخذ النجاشي عودًا من الأرض ثم قال: والله ما عدا عيسى ابن مريم ما قلت
هذا العود، فتناخرت بطارقته، فقال: وإن نَخَرْتُم والله.
ثم قال للمسلمين: اذهبوا فأنتم شُيُومٌ بأرضي ـ والشيوم: الآمنون
بلسان الحبشة ـ من سَبَّكم غَرِم، من سبكم غرم، من سبكم غرم، ما أحب أن لى
دَبْرًا من ذهب وإني آذيت رجلًا منكم ـ والدبر: الجبل بلسان الحبشة.
ثم قال لحاشيته: ردّوا عليهما هداياهما فلا حاجة لى بها، فوالله ما أخذ
الله منـي الرشـوة حين رد علي ملكي، فآخذ الرشـوة فيــه، وما أطاع الناس
في فأطيعـهم فيه.
قالت أم سلمة التي تروى هذه القصة: فخرجا من عنده مقبوحين مردودًا عليهما ما جاءا به، وأقمنا عنده بخير دار مع خير جار.
هذه رواية ابن إسحاق، وذكر غيره أن وفادة عمرو بن العاص إلى النجاشي كانت
بعد بدر، وجمع بعضهم بأن الوفادة كانت مرتين. ولكن الأسئلة والأجوبة
التي ذكروا أنها دارت بين النجاشي وبين جعفر بن أبي طالب في الوفادة
الثانية هي نفس الأسئلة والأجوبة التي ذكرها ابن إسحاق هنا، ثم إن تلك
الأسئلة تدل بفحواها أنها كانت في أول مرافعة قدمت إلى النجاشي.
*الشدة في التعذيب ومحاولة القضاء على رسول الله صلى الله عليه وسلم :
ولما أخفق المشركون في مكيدتهم، وفشلوا في استرداد المهاجرين استشاطوا
غضبًا، وكادوا يتميزون غيظًا، فاشتدت ضراوتهم وانقضوا على بقية المسلمين،
ومدوا أيديهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسوء، وظهرت منهم تصرفات
تدل على أنهم أرادوا القضاء على رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ليستأصلوا
جذور الفتنة التي أقضت مضاجعهم، حسب زعمهم.
أما بالنسبة للمسلمين فإن الباقين منهم في مكة كانوا قليلين جدًا، وكانوا
إما ذوى شرف ومنعة، أو محتمين بجوار أحد، ومع ذلك كانوا يخفون إسلامهم
ويبتعدون عن أعين الطغاة بقدر الإمكان، ولكنهم مع هذه الحيطة والحذر لم
يسلموا كل السلامة من الأذى والخسف والجور.
وأما رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد كان يصلى ويعبد الله أمام أعين
الطغاة، ويدعو إلى الله سرًا وجهرًا لا يمنعه عن ذلك مانع، ولا يصرفه عنه
شيء؛ إذ كان ذلك من جملة تبليغ رسالة الله منذ أمره الله سبحانه وتعالى
بقوله: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ}
[الحجر:94]، وبذلك كان يمكن للمشركين أن يتعرضوا له إذا أرادوا، ولم
يكن في الظاهر ما يحول بينهم وبين ما يريدون إلا ما كان له صلى الله عليه
وسلم من الحشمة والوقار، وما كان لأبي طالب من الذمة والاحترام، وما كانوا
يخافونه من مغبة سوء تصرفاتهم، ومن اجتماع بني هاشم عليهم، إلا أن كل ذلك
لم يعد له أثره المطلوب في نفوسهم؛ إذ بدءوا يستخفون به منذ شعروا بانهيار
كيانهم الوثنى وزعامتهم الدينية أمام دعوته صلى الله عليه وسلم.
ومما روت لنا كتب السنة والسيرة من الأحداث التي تشهد القرائن بأنها وقعت
في هذه الفترة: أن عتيبة بن أبي لهب أتى يومًا رسول الله صلى الله عليه
وسلم فقال: أنا أكفر بـ {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى} [النجم:1]
وبالذي {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى} [النجم:8] ثم تسلط عليه
بالأذى، وشق قميصه، وتفل في وجهه صلى الله عليه وسلم، إلا أن البزاق لم
يقع عليه، وحينئذ دعا عليه النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (اللهم سلط
عليه xxxًا من كلابك)، وقد استجيب دعاؤه صلى الله عليه وسلم، فقد خرج
عتيبة إثر ذلك في نفر من قريش، فلما نزلوا بالزرقاء من الشام طاف بهم
الأسد تلك الليلة، فجعل عتيبة يقول: يا ويل أخي هو والله آكلى كما دعا
محمد علىّ، قتلنى وهو بمكة، وأنا بالشام، ثم جعلوه بينهم، وناموا من حوله،
ولكن جاء الأسد وتخطاهم إليه، فضغم رأسه.
ومنها: ما ذكر أن عقبة بن أبي مُعَيْط وطئ على رقبته الشريفة وهو ساجد حتى كادت عيناه تبرزان.
ومما يدل على أن طغاتهم كانوا يريدون قتله صلى الله عليه وسلم ما رواه ابن
إسحاق عن عبد الله ابن عمرو بن العاص قال: حضرتهم وقد اجتمعوا في الحجر،
فذكروا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: ما رأينا مثل ما صبرنا
عليه من أمر هذا الرجل، لقد صبرنا منه على أمر عظيم، فبينا هم كذلك إذ طلع
رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأقبل يمشى حتى استلم الركن، ثم مر بهم
طائفًا بالبيت فغمزوه ببعض القول، فعرفت ذلك في وجه رسول الله صلى الله
عليه وسلم، فلما مر بهم الثانية غمزوه بمثلها، فعرفت ذلك في وجهه، ثم مر
بهم الثالثة فغمزوه بمثلها. فوقف ثم قال: (أتسمعون يا معشر قريش،
أما والذي نفسى بيده، لقد جئتكم بالذبح)، فأخذت القوم كلمته، حتى ما
منهم رجل إلا كأنما على رأسه طائر واقع، حتى إن أشدهم فيه ليرفؤه بأحسن ما
يجد، ويقول: انصرف يا أبا القاسم، فو الله ما كنت جهولًا.
فلما كان الغد اجتمعوا كذلك يذكرون أمره إذ طلع عليهم، فوثبوا إليه وثبة
رجل واحد وأحاطوا به، فلقد رأيت رجلًا منهم أخذ بمجمع ردائه، وقام أبو بكر
دونه، وهو يبكى ويقول: أتقتلون رجلًا أن يقول ربي الله؟ ثم انصرفوا
عنه، قال ابن عمرو: فإن ذلك لأشد ما رأيت قريشًا نالوا منه قط. انتهي
ملخصًا.
وفي رواية البخاري عن عروة بن الزبير قال: سألت ابن عمرو بن العاص:
أخبرني بأشد شيء صنعه المشركون بالنبي صلى الله عليه وسلم، قال: بينا
النبي صلى الله عليه وسلم يصلي في حجر الكعبة إذ أقبل عقبة بن أبي معيط،
فوضع ثوبه في عنقه، فخنقه خنقًا شديدًا؛ فأقبل أبو بكر حتى أخذ بمنكبيه،
ودفعه عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: أتقتلون رجلًا أن يقول ربي
الله؟.
وفي حديث أسماء: فأتى الصريخ إلى أبي بكر فقال: أدرك صاحبك، فخرج من
عندنا وعليه غدائر أربـع، فـخرج وهــو يـقول: أتقتلون رجلًا أن يقول ربي
الله؟ فلهوا عنه وأقبلوا على أبي بكر، فرجع إلينا لا نمس شيئًا من
غدائره إلا رجع معنــا.
.
[/size]* إسلام حمزة رضي الله عنه :
خلال هذا الجو الملبد بغيوم الظلم والعدوان ظهر برق أضاء الطريق، وهو
إسلام حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه أسلم في أواخر السنة السادسة من
النبوة، والأغلب أنه أسلم في شهر ذى الحجة.
وسبب إسلامه: أن أبا جهل مر برسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا عند
الصفا فآذاه ونال منه، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ساكت لا يكلمه، ثم
ضربه أبو جهل بحجر في رأسه فَشَجَّهُ حتى نزف منه الدم، ثم انصرف عنه إلى
نادى قريش عند الكعبة، فجلس معهم، وكانت مولاة لعبد الله بن جُدْعَان في
مسكن لها على الصفا ترى ذلك، وأقبل حمزة من القَنَص مُتَوَشِّحًا قوسه،
فأخبرته المولاة بما رأت من أبي جهل، فغضب حمزة ـ وكان أعز فتى في قريش
وأشده شكيمة ـ فخرج يسعى، لم يقف لأحد؛ معدًا لأبي جهل إذا لقيه أن يوقع
به، فلما دخل المسجد قام على رأسه، وقال له: يا مُصَفِّرَ اسْتَه، تشتم
ابن أخي وأنا على دينه ؟ ثم ضربه بالقوس فشجه شجة منكرة، فثار رجال من
بني مخزوم ـ حى أبي جهل ـ وثار بنو هاشم ـ حي حمزة ـ فقال أبو جهل: دعوا
أبا عمارة، فإني سببت ابن أخيه سبًا قبيحًا.
وكان إسلام حمزة أول الأمر أنفة رجل، أبي أن يهان مولاه، ثم شرح الله صدره فاستمسك بالعروة الوثقى، واعتز به المسلمون أيما اعتزاز.
* إسلام عمر بن الخطاب رضي الله عنه :
وخلال هذا الجو الملبد بغيوم الظلم والعدوان أضاء برق آخر أشد بريقًا
وإضاءة من الأول، ألا وهو إسلام عمر بن الخطاب، أسلم في ذى الحجـة سـنة
سـت مـن النبـوة. بعد ثلاثة أيام من إسلام حمزة رضي الله عنه وكان النبي
صلى الله عليه وسلم قد دعا الله تعالى لإسلامه. فقد أخرج الترمذى عن ابن
عمر، وصححه، وأخرج الطبراني عن ابن مسعود وأنس أن النبي صلى الله عليه
وسلم قال: (اللّهم أعز الإسلام بأحب الرجلين إليك: بعمر بن الخطاب
أو بأبي جهل بن هشام) فكان أحبهما إلى الله عمر رضي الله عنه.
وبعد إدارة النظر في جميع الروايات التي رويت في إسلامه يبدو أن نزول
الإسلام في قلبه كان تدريجيًا، ولكن قبل أن نسوق خلاصتها نرى أن نشير إلى
ما كان يتمتع به رضي الله عنه من العواطف والمشاعر.
كان رضي الله عنه معروفًا بحدة الطبع وقوة الشكيمة، وطالما لقى المسلمون
منه ألوان الأذى، والظاهر أنه كانت تصطرع في نفسه مشاعر متناقضة؛ احترامه
للتقاليد التي سنها الآباء والأجداد وتحمسه لها، ثم إعجابه بصلابة
المسلمين، وباحتمالهم البلاء في سبيل العقيدة، ثم الشكوك التي كانت تساوره
ـ كأي عاقل ـ في أن ما يدعو إليه الإسلام قد يكون أجل وأزكى من غيره،
ولهذا ما إن يَثُور حتى يَخُور.
وخلاصة الروايات ـ مع الجمع بينها ـ في إسلامه رضي الله عنه: أنه التجأ
ليلة إلى المبيت خارج بيته، فجاء إلى الحرم، ودخل في ستر الكعبة، والنبي
صلى الله عليه وسلم قائم يصلي، وقد استفتح سورة {الْحَاقَّةُ}،فجعل
عمر يستمع إلى القرآن، ويعجب من تأليفه، قال: فقلت ـ أي في نفسي: هذا
والله شاعر، كما قالت قريش، قال: فقرأ {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ
كَرِيمٍ وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ}
[الحاقة:40، 41] قال: قلت: كاهن. قال:{ وَلَا بِقَوْلِ
كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ}
إلى آخر السورة [الحاقة:42، 43] . قال: فوقع الإسلام في قلبي.
كان هذا أول وقوع نواة الإسلام في قلبه، لكن كانت قشرة النزعات الجاهلية،
وعصبية التقليد، والتعاظم بدين الآباء هي غالبـة على مخ الحقيقة التي كان
يتهمس بها قلبه، فبقى مجدًا في عمله ضد الإسلام غير مكترث بالشعور الذي
يكمن وراء هذه القشرة.
وكان من حدة طبعه وفرط عداوته لرسول الله صلى الله عليه وسلم أنه خرج
يومًا متوشحًا سيفه يريد القضاء على النبي صلى الله عليه وسلم، فلقيه نعيم
بن عبد الله النحام العدوي، أو رجل من بني زهرة، أو رجل من بني مخزوم
فقال: أين تعمد يا عمر؟ قال: أريد أن أقتل محمدًا. قال: كيف
تأمن من بني هاشم ومن بني زهرة وقد قتلت محمدًا؟ فقال له عمر: ما أراك
إلا قد صبوت، وتركت دينك الذي كنت عليه، قال: أفلا أدلك على العجب يا
عمر! إن أختك وخَتَنَكَ قد صبوا، وتركا دينك الذي أنت عليه، فمشى عمر
دامرًا حتى أتاهما، وعندهما خباب بن الأرت، معه صحيفة فيها: [طه]
يقرئهما إياها ـ وكان يختلف إليهما ويقرئهما القرآن ـ فلما سمع خباب حس
عمر توارى في البيت، وسترت فاطمة ـ أخت عمر ـ الصحيفة. وكان قد سمع عمر
حين دنا من البيت قراءة خباب إليهما، فلما دخل عليهما قال: ما هذه
الهينمة التي سمعتها عندكم؟ فقالا: ما عدا حديثًا تحدثناه بيننا.
قال: فلعلكما قد صبوتما. فقال له ختنه: يا عمر، أرأيت إن كان الحق
في غير دينك؟ فوثب عمر على ختنه فوطئه وطأ شديدًا. فجاءت أخته فرفعته
عن زوجها، فنفحها نفحة بيده، فدمى وجهها ـ وفي رواية ابن إسحاق أنه ضربها
فشجها ـ فقالت، وهي غضبى: يا عمر، إن كان الحق في غير دينك، أشهد أن لا
إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا رسول الله.
فلما يئس عمر، ورأي ما بأخته من الدم ندم واستحيا، وقال: أعطونى هذا
الكتاب الذي عندكم فأقرؤه، فقالت أخته: إنك رجس، ولا يمسه إلا المطهرون،
فقم فاغتسل، فقام فاغتسل، ثم أخذ الكتاب، فقرأ: {بسم الله الرحمن
الرحيم} فقال: أسماء طيبة طاهرة. ثم قرأ [طه] حتى انتهي إلى
قوله: {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي
وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} [طه:14] فقال: ما أحسن هذا
الكلام وأكرمه؟ دلوني على محمد.
فلما سمع خباب قول عمر خرج من البيت، فقال: أبشر يا عمر، فإني أرجو أن
تكون دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم لك ليلة الخميس: (اللّهم أعز
الإسلام بعمر بن الخطاب أو بأبي جهل بن هشام)، ورسول الله صلى الله عليه
وسلم في الدار التي في أصل الصفا.
فأخذ عمر سيفه، فتوشحه، ثم انطلق حتى أتى الدار، فضرب الباب، فقام رجل
ينظر من خلل الباب، فرآه متوشحًا السيف، فأخبر رسول الله صلى الله عليه
وسلم، واستجمع القوم، فقال لهم حمزة: ما لكم ؟ قالوا: عمر؟
فقال: وعمر؟ افتحوا له الباب، فإن كان جاء يريد خيرًا بذلناه له، وإن
كان جاء يريد شرًا قتلناه بسيفه، ورسول الله صلى الله عليه وسلم داخل يوحى
إليه، فخرج إلى عمر حتى لقيه في الحجرة، فأخذ بمجامع ثوبه وحمائل السيف،
ثم جبذه جبذة شديدة فقال: (أما أنت منتهيًا يا عمر حتى ينزل الله بك
من الخزى والنكال ما نزل بالوليد بن المغيرة؟ اللهم، هذا عمر بن الخطاب،
اللهم أعز الإسلام بعمر بن الخطاب)، فقال عمر: أشهد أن لا إله إلا
الله، وأنك رسول الله. وأسلم، فكبر أهل الدار تكبيرة سمعها أهل المسجد.
كان عمر رضي الله عنه ذا شكيمة لا يرام، وقد أثار إسلامه ضجة بين
المشركين، وشعورا لهم بالذلة والهوان، وكسا المسلمين عزة وشرفًا وسرورًا.
روى ابن إسحاق بسنده عن عمر قال: لما أسلمت تذكرت أي أهل مكة أشد لرسول
الله صلى الله عليه وسلم عداوة، قال: قلت: أبو جهل، فأتيت حتى ضربت
عليه بابه، فخرج إلىّ، وقال: أهلًا وسهلًا، ما جاء بك؟ قال: جئت
لأخبرك إني قد آمنت بالله وبرسوله محمد، وصدقت بما جاء به. قال: فضرب
الباب في وجهي، وقال: قبحك الله، وقبح ما جئت به.
وذكر ابن الجوزي أن عمر رضي الله عنه قال: كان الرجل إذا أسلم تعلق به
الرجال، فيضربونه ويضربهم، فجئت ـ أي حين أسلمت ـ إلى خالى ـ وهو العاصى
بن هاشم ـ فأعلمته فدخل البيت، قال: وذهبت إلى رجل من كبراء قريش ـ لعله
أبو جهل ـ فأعلمته فدخل البيت.
وفي رواية لابن إسحاق، عن نافع، عن ابن عمر قال: لما أسلم عمر بن الخطاب
لم تعلم قريش بإسلامه، فقال: أي أهل مكة أنشأ للحديث؟ فقالوا: جميل
بن معمر الجمحى. فخرج إليه وأنا معه، أعقل ما أرى وأسمع، فأتاه، فقال:
ياجميل، إني قد أسلمت، قال: فو الله ما رد عليه كلمة حتى قام عامدًا إلى
المسجد فنادى [بأعلى صوته] أن: يا قريش، إن ابن الخطاب قد صبأ.
فقال عمر ـ وهو خلفه: كذب، ولكنى قد أسلمت [وآمنت بالله وصدقت
رسوله]، فثاروا إليه فما زال يقاتلهم ويقاتلونه حتى قامت الشمس على
رءوسهم، وطَلَح ـ أي أعيا ـ عمر، فقعد، وقاموا على رأسه، وهو يقول:
افعلوا ما بدا لكم، فأحلف بالله أن لو كنا ثلاثمائة رجل لقد تركناها لكم
أو تركتموها لنا.
وبعد ذلك زحف المشركون إلى بيته يريدون قتله.روى البخاري عن عبد الله بن
عمر قال:بينما هو ـ أي عمر ـ في الدار خائفًا إذ جاءه العاص بن وائل
السهمى أبو عمرو،وعليه حلة حبرة وقميص مكفوف بحرير ـ وهو من بني سهم، وهم
حلفاؤنا في الجاهلية ـ فقال له: ما لك؟ قال: زعم قومك أنهم سيقتلوني
إن أسلمت، قال: لا سبيل إليك ـ بعد أن قالها أمنت ـ فخرج العاص، فلقى
الناس قد سال بهم الوادي، فقال: أين تريدون؟ فقالوا: هذا ابن الخطاب
الذي قد صبأ، قال: لا سبيل إليه، فَكَرَّ الناس. وفي لفظ في رواية ابن
إسحاق: والله، لكأنما كانوا ثوبًا كُشِطَ عنه.
هذا بالنسبة إلى المشركين، أما بالنسبة إلى المسلمين فروى مجاهد عن ابن
عباس قال: سألت عمر بن الخطاب: لأي شيء سميت الفاروق؟ قال: أسلم
حمزة قبلى بثلاثة أيام ـ ثم قص عليه قصة إسلامه. وقال في آخره: قلت ـ
أي حين أسلمت: يا رسول الله، ألسنا على الحق إن متنا وإن حيينا؟
قال: (بلى، والذي نفسي بيده، إنكم على الحق وإن متم وإن حييتم)،
قال: قلت: ففيم الاختفاء؟ والذي بعثك بالحق لنخرجن، فأخرجناه في
صفين، حمزة في أحدهما، وأنا في الآخر، له كديد ككديد الطحين، حتى دخلنا
المسجد، قال: فنظرت إلىّ قريش وإلى حمزة، فأصابتهم كآبة لم يصبهم مثلها،
فسماني رسول الله صلى الله عليه وسلم (الفاروق) يومئذ.
وكان ابن مسعود رضي الله عنه يقول: ما كنا نقدر أن نصلى عند الكعبة حتى أسلم عمر.
وعن صهيب بن سنان الرومى رضي الله عنه قال: لما أسلم عمر ظهر الإسلام،
ودعى إليه علانية، وجلسنا حول البيت حلقًا، وطفنا بالبيت، وانتصفنا ممن
غلظ علينا، ورددنا عليه بعض ما يأتى به.
وعن عبد الله بن مسعود قال: ما زلنا أعزة منذ أسلم عمر.
* ممثل قريش بين يدي الرسول صلى الله عليه وسلم :
وبعد إسلام هذين البطلين الجليلين ـ حمزة بن عبد المطلب وعمـر بن الخطاب
رضي الله عنهما أخذت السحائب تتقشع، وأفاق المشركون عن سكرهم في تنكيلهم
بالمسلمين، وغيروا تفكيرهم في معاملتهم مع النبي صلى الله عليه وسلم
والمؤمنين، واختاروا أسلوب المساومات وتقديم الرغائب والمغريات، ولم يدر
هؤلاء المساكين أن كل ما تطلع عليه الشمس لا يساوي جناح بعوضة أمام دين
الله والدعوة إليه، فخابوا وفشلوا فيما أرادوا.
قال ابن إسحاق: حدثني يزيد بن زياد عن محمد بن كعب القرظى قال: حدثت
أن عتبة بن ربيعة، وكان سيدًا، قال يومًا ـ وهو في نادى قريش، ورسول الله
صلى الله عليه وسلم جالس في المسجد وحده: يا معشر قريش، ألا أقوم إلى
محمد فأكلمه وأعرض عليه أمورًا لعله يقبل بعضها، فنعطيه أيها شاء ويكف
عنا؟ وذلك حين أسلم حمزة رضي الله عنه ورأوا أصحاب رسول الله صلى الله
عليه وسلم يكثرون ويزيدون، فقالوا: بلى، يا أبا الوليد، قم إليه، فكلمه،
فقام إليه عتبة،حتى جلس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يابن
أخي، إنك منا حيث قد علمت من السِّطَةِ في العشيرة، والمكان في النسب،
وإنك قد أتيت قومك بأمر عظيم، فرقت به جماعتهم، وسفهت به أحلامهم، وعبت به
آلهتهم ودينهم، وكفرت به من مضى من آبائهم، فاسمع منى أعرض عليك أمورًا
تنظر فيها لعلك تقبل منها بعضها. قال: فقال رسول صلى الله عليه
وسلم: (قل يا أبا الوليد أسمع).
قال: يابن أخي، إن كنت إنما تريد بما جئت به من هذا الأمر مالًا جمعنا
لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالًا، وإن كنت تريد به شرفًا سودناك علينا
حتى لا نقطع أمرًا دونك، وإن كنت تريد به ملكًا ملكناك علينا، وإن كان هذا
الذي يأتيك رئيًا تراه لا تستطيع رده عن نفسك طلبنا لك الطب، وبذلنا فيه
أموالنا حتى نبرئك منه، فإنه ربما غلب التابع على الرجل حتى يداوى منه ـ
أو كما قال له ـ حتى إذا فرغ عتبة ورسول الله صلى الله عليه وسلم يستمع
منه قال: (أقد فرغت يا أبا الوليد؟) قال: نعم، قال: (فاسمع
منى)، قال:أفعل، فقال: { بسم الله الرحمن الرحيم حم تَنزِيلٌ
مِّنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا
عَرَبِيًّا لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ
أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ
مِّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ} [فصلت:1: 5]. ثم مضى رسول الله
فيها، يقرؤها عليه. فلما سمعها منه عتبة أنصت له، وألقى يديه خلف ظهره
معتمدًا عليهما، يسمع منه، ثم انتهي رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى
السجدة منها فسجد ثم قال: (قد سمعت يا أبا الوليد ما سمعت، فأنت
وذاك).
فقام عتبة إلى أصحابه، فقال بعضهم لبعض: نحلف بالله لقد جاءكم أبو
الوليد بغير الوجه الذي ذهب به. فلما جلس إليهم قالوا: ما وراءك يا
أبا الوليد؟ قال: ورائي أني سمعت قولًا والله ما سمعت مثله قط، والله
ما هو بالشعر ولا بالسحر، ولا بالكهانة، يا معشر قريش، أطيعونى واجعلوها
بي، وخلوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه فاعتزلوه، فوالله ليكونن لقوله
الذي سمعت منه نبأ عظيم، فإن تصبه العرب فقد كفيتموه بغيركم، وإن يظهر على
العرب فملكه ملككم، وعزه عزكم، وكنتم أسعد الناس به، قالوا: سحرك والله
يا أبا الوليد بلسانه، قال: هذا رأيي فيه، فاصنعوا ما بدا لكم.
وفي روايات أخرى: أن عتبة استمع حتى إذا بلغ الرسول صلى الله عليه وسلم
قوله تعالى: {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً
مِّثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ} [فصلت:13] قال: حسبك، حسبك،
ووضع يده على فم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وناشده بالرحم أن يكف،
وذلك مخافة أن يقع النذير، ثم قام إلى القوم فقال ما قال.
[size=21]*رؤساء قريش يفاوضون رسول الله صلى الله عليه وسلم :
وكأن رجاء قريش لم ينقطع بما أجاب به النبي صلى الله عليه وسلم عتبة على
اقتراحاته؛ لأنه لم يكن صريحًا في الرفض أو القبول، بل تلا عليه النبي صلى
الله عليه وسلم آيات لم يفهمها عتبة، ورجع من حيث جاء، فتشاور رؤساء قريش
فيما بينهم وفكروا في كل جوانب القضية، ودرسوا كل المواقف بروية وتريث، ثم
اجتمعوا يومًا عند ظهر الكعبة بعد غروب الشمس، وأرسلوا إلى النبي صلى الله
عليه وسلم يدعونه، فجاء مسرعًا يرجو خيرًا، فلما جلس إليهم قالوا له مثل
ما قال عتبة، وعرضوا عليه نفس المطالب التي عرضها عتبة. وكأنهم ظنوا أنه
لم يثق بجدية هذا العرض حين عرض عتبة وحده، فإذا عرضوا هم أجمعون يثق
ويقبل، ولكن قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما بي ما
تَقُولُون، ما جِئْتُكُم بما جِئْتُكُم بِه أَطْلُب أَمْوَالكُم ولا
الشَّرف فيكم، ولا المُلْكَ عليكم، ولكنّ الله بَعَثَنِى إلَيْكُم
رَسُولًا، وَ أَنْزَلَ علىَّ كِتابًا، وأَمَرَنِى أنْ أَكُونَ لَكُم
بَشِيرًا وَنَذِيرًا، فَبَلَّغْتُكُم رِسَالاتِ ربي، وَنَصَحْتُ لَكُمْ،
فإِنْ تَقْبَلُوا مِنّى ما جِئْتُكُم بِه فَهُوَ حَظُّكُم في الدُنيا
والآخرة، وإنْ تَرُدُّوا علىّ أَصْبِر لأمْرِ الله ِ حتّى يَحْكُم الله ُ
بَيْنِى وَ بَيْـنَكُم). أو كما قال.
فانتقلوا إلى نقطة أخرى، وطلبوا منه أن يسأل ربه أن يسير عنهم الجبال،
ويبسط لهم البلاد، ويفجر فيها الأنهار، ويحيى لهم الموتى ـ ولا سيما قصى
بن كلاب ـ فإن صدقوه يؤمنون به. فأجاب بنفس ما سبق من الجواب.
فانتقلوا إلى نقطة ثالثة، وطلبوا منه أن يسأل ربه أن يبعث له ملكًا يصدقه،
ويراجعونه فيه، وأن يجعل له جنات وكنوزًا وقصورًا من ذهب وفضة، فأجابهم
بنفس الجواب.
فانتقلوا إلى نقطة رابعة، وطلبوا منه العذاب: أن يسقط عليهم السماء
كسفًا، كما يقول ويتوعد، فقال: (ذلك إلى الله، إن شاء فعل).
فقالوا: أما علم ربك أنا سنجلس معك، ونسألك ونطلب منك، حتى يعلمك ما
تراجعنا به، وما هو صانع بنا إذا لم نقبل.
وأخيرًا هددوه أشد التهديد، وقالوا:أما والله لا نتركك وما فعلت بنا حتى
نهلكك أو تهلكنا، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهم، وانصرف إلى
أهله حزينًا أسفا لما فاته ما طمع من قومه.
*عزم أبي جهل على قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم :
ولما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهم خاطبهم أبو جهل في كبريائه
وقال: يا معشر قريش، إن محمدًا قد أبي إلا ما ترون من عيب ديننا، وشتم
آبائنا، وتسفيه أحلامنا، وشتم آلهتنا، وأني أعاهد الله لأجلسن له بحجر ما
أطيق حمله، فإذا سجد في صلاته فضخت به رأسه، فأسلمونى عند ذلك أو امنعونى،
فليصنع بعد ذلك بنو عبد مناف ما بدا لهم، قالوا: والله لا نسلمك لشيء
أبدًا، فامض لما تريد.
فلما أصبح أبو جهل، أخذ حجرًا كما وصف، ثم جلس لرسول الله صلى الله عليه
وسلم ينتظره، وغدا رسول الله صلى الله عليه وسلم كما كان يغدو، فقام يصلي،
وقد غدت قريش فجلسوا في أنديتهم ينتظرون ما أبو جهل فاعل، فلما سجد رسول
الله صلى الله عليه وسلم احتمل أبو جهل الحجر، ثم أقبل نحوه، حتى إذا دنا
منه رجع منهزمًا ممتقعًا لونه، مرعوبًا قد يبست يداه على حجره، حتى قذف
الحجر من يده، وقامت إليه رجال قريش فقالوا له: ما لك يا أبا الحكم؟
قال: قمت إليه لأفعل به ما قلت لكم البارحة، فلما دنوت منه عرض لى دونه
فَحْلٌ من الإبل، لا والله ما رأيت مثل هَامَتِه، ولا مثل قَصَرَتِه ولا
أنيابه لفحل قط، فَهَمَّ بى أن يأكلنى.
قال ابن إسحاق: فذكر لى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ذلك جبريل عليه السلام لو دنا لأخذه)
*مساومات وتنازلات :
ولما فشلت قريش في مفاوضتهم المبنية على الإغراء والترغيب، والتهديد
والترهيب، وخاب أبو جهل فيما أبداه من الرعونة وقصد الفتك، تيقظت فيهم
رغبة الوصول إلى حل حصيف ينقذهم عما هم فيه، ولم يكونوا يجزمون أن النبي
صلى الله عليه وسلم على باطل، بل كانوا ـ كما قال الله تعالى {لَفِي
شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ} [الشورى:14]. فرأوا أن يساوموه صلى الله
عليه وسلم في أمور الدين، ويلتقوا به في منتصف الطريق، فيتركوا بعض ما هم
عليه، ويطالبوا النبي صلى الله عليه وسلم بترك بعض ما هو عليه، وظنوا أنهم
بهذا الطريق سيصيبون الحق، إن كان ما يدعو إليه النبي صلى الله عليه وسلم
حقًا.
روى ابن إسحاق بسنده، قال: اعترض رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ وهو
يطوف بالكعبة ـ الأسود بن المطلب بن أسد بن عبد العزى والوليد بن المغيرة
وأمية بن خلف والعاص بن وائل السهمى ـ وكانوا ذوى أسنان في قومهم ـ
فقالوا: يا محمد، هلم فلنعبد ما تعبد، وتعبد ما نعبد، فنشترك نحن وأنت
في الأمر، فإن كان الذي تعبد خيرًا مما نعبد كنا قد أخذنا بحظنا منه، وإن
كان ما نعبد خيرًا مما تعبد كنت قد أخذت بحظك منه، فأنزل الله تعالى
فيهم: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لَا أَعْبُدُ مَا
تَعْبُدُونَ} السورة كلها.
وأخرج عَبْدُ بن حُمَـيْد وغيره عن ابن عباس أن قريشًا قالت: لو استلمت
آلهتنا لعبدنا إلهك. فأنزل الله: {قُلْ يَا أَيُّهَا
الْكَافِرُونَ} السورة كلها وأخرج ابن جرير وغيره عنه أن قريشًا قالوا
لرسول الله صلى الله عليه وسلم: تعبد آلهتنا سنة، ونعبد إلهك سنة،فأنزل
الله:{قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا
الْجَاهِلُونَ} [الزمر:64]
ولما حسم الله تعالى هذه المفاوضة المضحكة بهذه المفاصلة الجازمة لم تيأس
قريش كل اليأس، بل أبدوا مزيدًا من التنازل بشرط أن يجرى النبي صلى الله
عليه وسلم بعض التعديل فيما جاء به من التعليمات، فقالوا: {ائْتِ
بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَـذَا أَوْ بَدِّلْهُ}، فقطع الله هذا السبيل أيضًا
بإنزال ما يرد به النبي صلى الله عليه وسلم عليهم فقال: {قُلْ مَا
يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَاء نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ
مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ
عَظِيمٍ} [يونس:15] ونبه على عظم خطورة هذا العمل بقوله:{
وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ
لِتفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لاَّتَّخَذُوكَ خَلِيلاً
وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا
قَلِيلاً إِذاً لَّأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ
ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا} [الإسراء:73: 75].
حيرة قريش وتفكيرهم الجاد واتصالهم باليهود
أظلمت أمام المشركين السبل بعد فشلهم في هذه المفاوضات والمساومات
والتنازلات، واحتاروا فيما يفعلون، حتى قام أحد شياطينهم: النضر بن
الحارث، فنصحهم قائلًا: يا معشر قريش، والله لقد نزل بكم أمر ما أتيتم
له بحيلة بعد، قد كان محمد فيكم غلامًا حدثًا أرضاكم فيكم، وأصدقكم
حديثًا، وأعظمكم أمانة، حتى إذا رأيتم في صدغيه الشيب، و جاءكم بما جاءكم
به، قلتم: ساحر، لا والله ما هو بساحر، لقد رأينا السحرة ونَفْثَهم
وعَقْدَهم، وقلتم: كاهن، لا والله ما هو بكاهن، قد رأينا الكهنة
وتَخَالُجَهم وسمعنا سَجَعَهُم، وقلتم: شاعر، لا والله ما هو بشاعر، قد
رأينا الشعر وسمعنا أصنافه كلها هَزَجَه ورَجَزَه، وقلتم: مجنون، لا
والله ما هو بمجنون، لقد رأينا الجنون، فما هو بخنقه، ولا وسوسته، ولا
تخليطه، يا معشر قريش، فانظروا في شأنكم، فإنه والله لقد نزل بكم أمر
عظيم.
وكأنهم لما رأوا صموده صلى الله عليه وسلم في وجه كل التحديات، ورفضه كل
المغريات، وصلابته في كل مرحلة ـ مع ما كان يتمتع به من الصدق والعفاف
ومكارم الأخلاق ـ قويت شبهتهم في كونه رسولًا حقًا، فقرروا أن يتصلوا
باليهود حتى يتأكدوا من أمره صلى الله عليه وسلم، فلما نصحهم النضر بن
الحارث بما سبق كلفوه مع آخر أو آخرين ليذهب إلى يهود المدينة، فأتاهم
فقال أحبارهم: سلوه عن ثلاث، فإن أخبر فهو نبى مرسل، وإلا فهو متقول؛
سلوه عن فتية ذهبوا في الدهر الأول،ما كان أمرهم؟ فإن لهم حديثًا عجبًا
، وسلوه عن رجل طواف بلغ مشارق الأرض ومغاربها، ما كان نبؤه؟ وسلوه عن
الروح، ما هي؟
فلما قدم مكة قال: جئناكم بفصل ما بينكم وبين محمد، وأخبرهم بما قاله
اليهود، فسألت قريش رسول صلى الله عليه وسلم عن الأمور الثلاثة، فنزلت بعد
أيام سورة الكهف، فيها قصة أولئك الفتية، وهم أصحاب الكهف، وقصة الرجل
الطواف، وهو ذو القرنين، ونزل الجواب عن الروح في سورة الإسراء. وتبين
لقريش أنه صلى الله عليه وسلم على حق وصدق، ولكن أبي الظالمون إلا
كفورًا.
هذه نبذة خفيفة مما واجه به المشركون دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم،
وقد مارسوا كل ذلك جنبا إلى جنب، متنقلين من طور إلى طور، ومن دور إلى
دور. فمن شدة إلى لين، ومن لين إلى شدة، ومن جدال إلى مساومة، ومن
مساومة إلى جدال، ومن تهديد إلى ترغيب، ومن ترغيب إلى تهديد، كانوا يثورون
ثم يخورون، ويجادلون ثم يجاملون، وينازلون ثم يتنازلون، ويوعدون ثم
يرغبون، كأنهم كانوا يتقدمون ويتأخرون، لا يقر لهم قرار، ولا يعجبهم
الفرار، وكان الغرض من كل ذلك هو إحباط الدعوة الإسلامية، ولَمَّ شَعْثِ
الكفر، ولكنهم بعد بذل كل الجهود واختبار كل الحيل عادوا خائبين، ولم يبق
أمامهم إلا السيف، والسيف لا يزيد الفرقة إلا شدة، ولا ينتج إلا عن تناحر
يستأصل الشأفة، فاحتاروا ماذا يفعلون.
*موقف أبي طالب وعشيرته :
أما أبو طالب فإنه لما واجه مطالبة قريش بتسليم النبي صلى الله عليه وسلم
لهم ليقتلوه، ثم رأي في تحركاتهم وتصرفاتهم ما يؤكد أنهم يريدون قتله
وإخفار ذمته ـ مثل ما فعله عقبة بن أبي معيط، وأبو جهل بن هشام وعمر بن
الخطاب ـ جمع بني هاشم وبني المطلب، ودعاهم إلى القيام بحفظ النبي صلى
الله عليه وسلم، فأجابوه إلى ذلك كلهم ـ مسلمهم وكافرهم ـ حَمِيَّةً
للجوار العربي، وتعاقدوا وتعاهدوا عليه عند الكعبة. إلا ما كان من أخيه
أبي لهب، فإنه فارقهم، وكان مع قريش